في الفترة الأخيرة، صارت كلمة "ديمقراطية" تتناثر في كل مكان. في بعض الأحيان تأتي مع بعض التعريف ("الديمقراطية هي ...") وأحيانًا تقف كحجة في حد ذاتها، كجملة نحوية. كتب بياليك: "ينجذب البشر كل يوم إلى روح الكلمات اللاذعة"، وقبل أن تصل كلمة "الديمقراطية" إلى التشبع، وتفريغ محتواها وتصبح بقعة رورشاخ، أنا أيضًا مهتم بالانضمام إلى حفلة الديمقراطية.

على غرار العمليات التي حدثت في دول أخرى في العالم، أدت الديمقراطية الليبرالية في إسرائيل أيضًا إلى أزمة تمثيل. أدت العمليات التاريخية مثل الثورة الليبرالية الجديدة لخطة تحقيق الاستقرار في الاقتصاد عام 1985، وسياسة الخصخصة التي انتهجها رابين في التسعينيات، وإعلان باراك الشهير بعد خروجه من محادثات السلام في كامب ديفيد في يوليو / تموز 2000، وبشكل تدريجي إلى إضعاف قدرة الجمهور العام على التأثير على الحكومة. حدث هذا الضرر من الماضي من خلال نقل مجالات صنع القرار بأكملها من المستوى المنتخب إلى المستويات المهنية البيروقراطية وتفكيك الآليات الديمقراطية داخل الأحزاب، ومن الماضي الآخر من خلال طمس الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب الكبرى. يعد الانخفاض الحاد في معدل التصويت في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من 78.7٪ في انتخابات 1999 إلى 62.3٪ في انتخابات 2001، واستقرار نسبة التصويت عند أقل من 70٪ في المتوسط ​​منذ ذلك الحين، أحد أهم العوامل التي تشهد على هذه الأزمة.

ممثلو اليمين الشعبوي، مثل ترامب في الولايات المتحدة، بولسونارو في البرازيل، أوربان في المجر، لوبان في فرنسا، جونسون في المملكة المتحدة ونتنياهو في إسرائيل، أدركوا بالفعل أزمة التمثيل هذه منذ سنوات. كل واحد منهم وجد الطريقة المحلية لاستغلالها، وما يجمعهم جميعًا اطلاق هجوم سياسي عام على المؤسسات الليبرالية التي خلقت الأزمة، مثل النخبة الرأسمالية والأجهزة المهنية والنظام القضائي. تم تصنيف الأقليات والمهاجرين واللاجئين ونشطاء حقوق الإنسان ومجتمع الميم كأعداء، وألقيت عليهم المسؤولية عن المشكلات الاجتماعية التي خلقتها، الديمقراطية الليبرالية والعولمة المدمرة التي روجت في ظلها.

على الرغم مما قد يفهم مما كتب حتى الآن، سيكون من الخطأ النظر إلى اليمين الشعبوي والديمقراطية الليبرالية على أنهما أقطاب متعارضة. تقدم الديمقراطية الليبرالية نموذجًا متكافئًا ظاهريًا للمواطنة، لكنها تفعل ذلك مع تقديس الوضع الراهن وتجاهل الاختلافات الدراماتيكية بين إمكانيات الأفراد المختلفين في المجتمع للتأثير على صنع القرار السياسي. من ناحية أخرى، يقترح اليمين الشعبوي من الجهة الأخرى نموذجًا هرميًا للمواطنة، والذي بموجبه يضمن الانتماء إلى مجموعة معينة، غالبًا إثنيًا أو عرقيًا، حقوقًا أعلى من المجموعات الأخرى. ومع ذلك، في حين أن النموذجين قد يبدوان وكأنهما نموذجان متضاربان، إلا أنهما في الواقع نموذجان مكملان: فاليمين الشعبوي ليس "خطأ" في الديمقراطية الليبرالية، ولكنه "سمة" لعقود من السياسة النيوليبرالية التي تقصي عن مراكز القوة أقسامًا متنامية من الجمهور، والتي بدورها تصبح الجمهور المستهدف لقادة اليمين الشعبوي. من الضروري الانتباه ليس فقط للعلاقة السببية بين النموذجين، ولكن أيضًا إلى التشابه بينهما: الأول، مثل الثاني، يقدم مساحة ديمقراطية حيث يكون التمثيل رمزيًا فقط، على عكس الحيز الديمقراطي الذي يسمح لكل شخص، بغض النظر عن خلفيته، بالتأثير على حياته من خلال المؤسسات المنتخبة. هدفنا ليس فقط الاستمرار في فضح اغلاق الديمقراطية الليبرالية لعينيها، ولكن، كأشخاص يناضلون من أجل المساواة الحقيقية والكاملة، في تعزيز بديل حقيقي لليبرالية والشعبوية اليمينية من خلال بناء منظمات ديمقراطية من الأسفل.  

بكلمات أخرى، نحن بحاجة إلى هياكل ديمقراطية تشاركية ستعيد للجمهور السلطة التي تم أخذها منه. لا يمكن تحقيق هذا الهدف فقط من خلال تقديم طرح فكري متقدم أو من خلال تزويد مراكز القوة بأشخاص لديهم آراء "صحيحة" ونوايا حسنة. هناك حاجة إلى أطر ديمقراطية تبدأ من الجمهور والتي يلتزم  منتخبوها  تجاه الجمهو، ليس فقط كل بضع سنوات في الانتخابات ولكن أيضًا عند اتخاذ قرارات مهمة خلال فترة تولي المنصب. القصد ليس بالضرورة استفتاءات ونماذج التصويت المباشرة الأخرى، ولكن إلى الحاجة ذاتها لمسؤول منتخب ليكون مسؤولاً أمام ناخبيه، وقدرة الناخبين  على انتقاده عندما لا يتصرف بشكل صحيح في نظرهم، وأيضًا مطالبته بقيادة وتطوير مبادرات ربما لم يفكر بها بنفسه أو ليست على رأس سلم أولوياته.

ومع ذلك، إذا كنا جادين في نوايانا، فلا ينبغي أن نكتفي بتوسيع ديمقراطية جهاز الحكومة المركزية، ولكن يجب أن نعمل على توسيع الديمقراطية لتشمل جميع مجالات الحياة.

شهد عالم الأعمال تغيرات كبيرة في العقود الأخيرة. أدت عولمة وانتقال الاقتصادات الغربية - بما في ذلك إسرائيل - من الاقتصادات القائمة على الصناعة، والتي تتميز بمصانع كبيرة توظف الآلاف وعشرات الآلاف من العمال، إلى اقتصادات قائمة على الخدمات، تتميز بأماكن عمل صغيرة تقدم خدمات متنوعة، إلى إضعاف قوة المنظمات العمالية. يجب علينا تقوية العمال الذين المنظمين اليوم، والعمل بشكل خلاق لتعزيز المزيد من المنظمات، وفق  النماذج الكلاسيكية للنقابات العمالية والنماذج التي تواجه حواجز التنظيم التي تفرضها معايير التوظيف الجديدة نسبيًا، مثل التوظيف بعقود قصيرة الأمد، والتوظيف عبر مقاول أو امتيازات وعطاءات.  الديمقراطية في مكان العمل تعني قدرة الموظفين على إسماع أصواتهم بشكل جماعي، وتحسين ظروف عملهم والحصول على المكان الذي يستحقونه على طاولة الإدارة.

تم أخذ مساحاتنا العامة منا. الطرق التي اعتاد الأطفال على اللعب فيها عندما كانوا يعودون إلى المنزل من المدرسة، وكبار السن يمشون في المساء، والتي كان الآباء يمشون مع عربات الأطفال دون عوائق، والتي قاد راكبو الدراجات دراجاتهم فيها في طريقهم إلى العمل، أصبحت طرقًا متعددة المسارات حيث تقف الحافلات في ازدحام مروري للسيارات الخاصة. وعلى الأطراف أرصفة ضيقة وخالية من الظل، والتي تسدها السيارات أحيانًا. بدأت المجمعات المسيّجة من المساكن الفاخرة بالظهور في مراكز المدن الكبيرة وتمنع مرور السكان، في بعض الأحيان ضد القانون. وبشكل غير مفاجئ، هذه المجمعات تضم تجمعات كبيرة من شقق الأشباح التي يتم تشغيلها مرة واحدة في السنة لبضعة أسابيع في الصيف أو خلال العطلات. تعني الديمقراطية في الحيز العام قدرة السكان ليس فقط على التنقل عبر أي مكان عام، ولكن أيضًا لتشكيل طبيعة هذا الحيز العام وتحديد توزيعه العادل بين مختلف مستخدميه.

لم يكن مجال الإسكان في إسرائيل متكافئًا وعادلاً أبدًا، وقد تميّز منذ قيام الدولة بانعكاس وإعادة إنتاج التقسيم الطبقي في المجتمع. ومع ذلك، حتى في ظل هذا الواقع التاريخي، من الممكن الإشارة إلى عملية تدهور الوضع السكني خلال العقود الماضية. في أوائل السبعينيات، كانت حوالي 23٪ من الشقق في إسرائيل مملوكة ملكية عامة، وكانت سياسة الإسكان العام شاملة نسبيًا. ومع ذلك، في أواخر السبعينيات، تغيرت سياسة الإسكان العامة وأصبحت شروط الأهلية أكثر انتقائية. فتح إبعاد الطبقة الوسطى من الحق في السكن العام نافذة سياسية للقضاء المنهجي على مجمع الإسكان العام بعد عشرين عامًا. اليوم،  النسبة الإجمالية للشقق العامة هو 2٪ فقط، وقائمة الانتظار تطول من سنة إلى أخرى على الرغم من شروط الأهلية الانتقائية - المرعبة، والشقق القائمة تعاني من إهمال من قبل الدولة، التي نقلت مسؤولية صيانتها إلى شركات الإسكان. إلى جانب ذلك، تم استبدال قانون حماية المستأجر في عام 1973 بقانون الإيجار والإقراض، والذي يتضمن فقط الحماية الأساسية التي لا يعرفها العديد من المستأجرين. في ظل هذا، تم التخلي عن الملايين من الناس إلى الطبيعة الشبيهة بالأزمة للسوق "الحر"، والتي تتجلى في العديد من المشاكل مثل الإيجارات قصيرة الأمجد، والتمييز، والزيادات المتكررة في الإيجارات، ونقص الشقق الصغيرة. تعني الديمقراطية في مجال الإسكان قدرة الناس على التأثير في مؤسسات التخطيط  من أعضاء المجالس في مقاعدهم كلجنة تخطيط محلية إلى الحكومة المركزية وسلطة أراضي إسرائيل، وتعزيز الحلول السكنية التي تعيد السيطرة على مجال الإسكان للجمهور. كجزء من هذه الحلول، سيضمن لكل شخص الحق في الحصول على سقف لائق بسعر معقول.

في مواجهة أزمة التمثيل التي خلقتها النيوليبرالية، وفي مواجهة صعود اليمين الشعبوي، يجب علينا العمل على تعزيز بديل سياسي حقيقي: سياسة تبدأ بالناس وتأخذهم في الاعتبار على طول الطريق. ليس الأشخاص العاديون يطوفون ويتجولون في الحيز العام، ولا النشطاء الأبطال الخارقين وليس المسؤولين المنتخبين من القطاع الخاص ذوي النوايا الحسنة - ولكن الأشخاص الذين يتنظمون معًا، على أساس المصالح المشتركة، ويخلقون منظمات ديمقراطية قادرة على إسماع صوتهم الجماعي. ما تشترك فيه الأمثلة الثلاثة أعلاه هو أن الدمقرطة في المناطق المذكورة أعلاه - أماكن العمل والأماكن العامة وقطاع الإسكان - لا تتطلب منا الانتظار لسنوات حتى تصل الأخبار من الكنيست والحكومة. بدلاً من ذلك، يمكننا بالفعل أن نبدأ صباح الغد في التنظم معًا ونعيد إلينا المساحات والموارد والسلطة التي استولت عليها حفنة من الأشخاص الذين يتحكمون اليوم في عملية صنع القرار أمام الكواليس وخلفها.

تحرير: نوعا نوي